سياسةأخبار
أخر الأخبار

المستشار خالد خلاف: جريمة التنمر في القانون المصري

حين تتحول الكلمات إلى سلاح يعاقب عليه القانون

المستشار خالد خلاف: جريمة التنمر في القانون المصري
حين تتحول الكلمات إلى سلاح يعاقب عليه القانون

المستشار خالد خلاف : في زحام الحياة، قد تمر بنا كلمات نلقيها بلا تفكير، أو نسمعها دون اكتراث، لكنها في نفوس البعض تترك ندبة لا تُمحى. فكم من إنسان انكسر من ضحكة ساخرة، أو تهشّمت كرامته تحت وقع عبارة مهينة. التنمر لم يعد مجرد سلوك اجتماعي مرفوض، بل أصبح أداة إيذاء نفسي ومعنوي خطير، تتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية وتضرب ضحاياها في عمق إنسانيتهم.

لقد تسلل التنمر إلى ساحات المدارس، فغادر الطفل فصله وهو يشعر بالنقص، وغزا منصات التواصل الاجتماعي، حيث يُلقى السباب والتهكم خلف الشاشات باسم “الترند”. واستقر في أماكن العمل، حين يُهان الموظف تحت غطاء “المزاح”.

وبحسب تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية، فإن ما يقرب من واحد من كل ثلاثة طلاب في العالم تعرضوا لشكل من أشكال التنمر المدرسي. أما على الإنترنت، فالتنمر الإلكتروني أصبح جريمة عابرة للحدود، ضحاياه من كل الأعمار والفئات، وقد تنتهي – للأسف – بالانتحار أو الاضطرابات النفسية الحادة.

أولاً: التنمر في نظر القانون

من لفظ إلى جريمة

لم يكن مصطلح “التنمر” مألوفًا قانونيًا في مصر قبل عام 2020، رغم وجود أفعال مشابهة تندرج تحت جرائم السب والقذف أو الإهانة. لكن مع تزايد خطورة الظاهرة، أدرك المشرع المصري الحاجة إلى توصيف قانوني مستقل.

تم إدراج أول تجريم مباشر للتنمر بموجب القانون رقم 189 لسنة 2020 بإضافة المادة 309 مكرر (ب) إلى قانون العقوبات، ثم تم تعديل النص مؤخرًا بموجب القانون رقم 185 لسنة 2023، ونُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 4 ديسمبر 2023، ليُعمل به رسميًا في 5 ديسمبر 2023.

وقد نص التعديل على أن:

يعد تنمرًا كل قول أو استعراض قوة أو سيطرة للجاني أو استغلال ضعف للمجني عليه أو لحالة يعتقد الجاني أنها تسئ للمجني عليه كالجنس أو العرق أو الدين أو الأوصاف البدنية أو الحالة الصحية أو العقلية أو المستوى الاجتماعي، بقصد تخويفه أو وضعه موضع السخرية أو الحط من شأنه أو إقصائه من محيطه الاجتماعي.

هذا النص يضع الأساس القانوني لاعتبار التنمر جريمة معنوية تُعاقب الأقوال كما تُعاقب الأفعال، ويُقر بالتمييز كدافع للجريمة، مثل النوع، الدين، الشكل، أو الحالة العقلية. كما يعتمد على مفهوم “الهيمنة المعنوية”، أي استعراض القوة النفسية أو السيطرة.

العقوبات

  • العقوبة الأصلية:
    حبس لمدة لا تقل عن ستة أشهر وغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه ولا تزيد على 30 ألف جنيه، أو إحدى هاتين العقوبتين.
  • العقوبات المشددة:
    • إذا وقعت الجريمة في مكان العمل أو وسائل النقل.
    • إذا ارتكبها شخصان أو أكثر.
    • إذا كان الجاني من أصول المجني عليه أو من يتولى تربيته أو ممن له سلطة عليه.

    في هذه الحالات تكون العقوبة: الحبس لمدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه ولا تزيد على 100 ألف جنيه، أو إحدى هاتين العقوبتين.

    وإذا اجتمع ظرفان مشددان أو أكثر، يُضاعف الحد الأدنى للعقوبة.

  • في حالة العود:
    تضاعف العقوبة في الحدين الأدنى والأقصى، في إشارة إلى موقف المشرّع الحازم تجاه التكرار.

ثانيًا: صور جريمة التنمر

لم تعد جريمة التنمر مقتصرة على فئة عمرية أو بيئة اجتماعية واحدة، بل أصبحت ظاهرة مجتمعية عابرة للمجالات، تظهر أحيانًا في الخفاء وأحيانًا علنًا:

  1. التنمر في المدارس:
    • الضحية: طفل أو مراهق يعاني من اختلاف ظاهري أو اجتماعي.
    • الجاني: طالب، مجموعة طلاب، أو عامل بالمؤسسة.
    • الأثر: فقدان الثقة، العزلة، ترك التعليم، اضطرابات نفسية مزمنة.
  2. التنمر الإلكتروني:
    • المكان: منصات التواصل الاجتماعي، الرسائل، البريد الإلكتروني.
    • الأداة: منشورات، تعليقات، صور مفبركة، فضح خصوصيات، رسائل تهديد.
    • يعاقب عليه وفق قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 ومواد السب والقذف في قانون العقوبات.
  3. التنمر في أماكن العمل:
    • يتم عبر التهميش، الاستهزاء، سحب الصلاحيات.
    • الخطر: تدهور الأداء، الضغط النفسي، فقدان الانتماء.
  4. التنمر في وسائل النقل والأماكن العامة:
    • يتخذ شكل تعليقات عنصرية أو جسدية تُلقى علنًا.
    • قد تُصور وتُنشر كنوع من الإهانة العلنية.
  5. التنمر العائلي أو في محيط السلطة:
    • من أخطر أشكاله، حيث يحدث في بيئة مغلقة من خلال الإهانات المتكررة من أحد أفراد الأسرة.
    • القانون يُشدد العقوبة إذا كان الجاني من أصول أو أولياء المجني عليه.

ثالثًا: متى تتحول السخرية إلى حبس وغرامة؟

يُعتقد خطأ أن التنمر مجرد “مزاح ثقيل”، بينما القانون المصري يعامله كجريمة مكتملة الأركان. المادة 309 مكرر ب من قانون العقوبات تؤكد أن السخرية المتكررة أو التخويف أو التحقير يدخل تحت طائلة القانون.

  • في غياب الظروف المشددة:
    الحبس 6 أشهر وغرامة 10 – 30 ألف جنيه.
  • في وجود ظرف مشدد:
    الحبس سنة وغرامة 20 – 100 ألف جنيه.
  • في حال اجتماع ظرفين فأكثر:
    يُضاعف الحد الأدنى للعقوبة.
  • في حال تكرار الجريمة (العود):
    تضاعف العقوبة بالكامل.

رابعًا: ماذا بعد التجريم؟

رغم أهمية النصوص القانونية وتشديد العقوبات، فإن الوقاية من التنمر مسؤولية مجتمعية:

  • الأسرة:
    تُعد أول جبهة للدفاع، يجب أن تُغرس في أبنائها قيم احترام الآخر وتقدير الاختلاف.
  • المدرسة:
    دورها لا يقتصر على التعليم، بل تربية النشء. ويجب تدريب المعلمين على اكتشاف التنمر والتعامل معه تربويًا قبل أن يصبح جنائيًا.
  • الإعلام ومواقع التواصل:
    يجب أن تتوقف عن تقديم التنمر كـ”كوميديا”، وأن يُسلط الضوء على خطورته النفسية والقانونية.

إن التنمر ليس حرية رأي، وليس وسيلة ترفيه، وليس أداة تربية. هو عدوان نفسي يُهدد السلام المجتمعي ويستوجب تدخلًا تشريعيًا ومجتمعيًا.


بقلم
المستشار / خالد خلاف

المستشار خالد خلاف
المستشار خالد خلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى